الخميس، 3 مارس 2022

 

                                   معركة الدشيرة: دروس وعبر في قيم الوطنية

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

بداية أود التعبير عن بالغ سعادتي بالدعوة الكريمة التي وجهت لي من طرف أطر فضاء الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير بالدارالبيضاء الحي المحمدي للمشاركة في الندوة المنظمة بمناسبة الاحتفال بالذكرى 64 للزيارة التاريخية لجلالة المغفور له محمد الخامس الى محاميد الغزلان والذكرى 64 لمعركة الدشيرة المجيدة والذكرى 46 لجلاء أخر جندي أجنبي عن الأقاليم الجنوبية المسترجعة .

تشكل الذكرى الـ64 لمعركة الدشيرة  مناسبة لاستحضار إحدى المحطات البارزة والوازنة في مسيرة الكفاح الوطني من أجل استكمال الاستقلال الوطني وتحقيق الوحدة الترابية ، والتي يخلدها الشعب المغربي في 28 فبراير من كل سنة.وتجسد هذه الذكرى مدى الارتباط الوثيق لقبائل الصحراء الأشاوس بالعرش العلوي المجيد،ونضالهم المستميت من اجل الدفاع عن حوزة الوطن،وصيانة وحدته الترابية.فقد كانت انطلاقة طلائع قوات جيش التحرير بالجنوب المغربي سنة 1956 تعبيرا قويا يجسد إرادة العرش والشعب في استكمال الاستقلال وتحقيق الوحدة الترابية.

وهكذا خاض أبناء القبائل الصحراوية وإخوانهم من كافة الجهات والمناطق المحررة، غمار عدة معارك بطولية على امتداد ربوع الساقية الحمراء ووادي الذهب، وانتشر أبطال جيش التحرير في الأجزاء المغتصبة من التراب الوطني بالأقاليم الصحراوية ليحققوا ملاحم بطولية وانتصارات باهرة لم تجد القوات العسكرية الإسبانية أمامها إلا أن تتحالف مع القوات الفرنسية في ما سمي بعملية “ايكوفيون.

ومن هذه المعارك البطولية هناك معارك الدشيرة والبلايا والمسيد وأم العشار والرغيوة واشت والسويحات ومركالة وغيرها من الملاحم الخالدة التي ما من شبر بربوع الصحراء إلا ويذكرها ويشهد على روائعها .

وضمن معارك التحرير، أيضا، كان يوم 23 نونبر 1957 يوما خالدا في تاريخ المغرب، حينما انتفضت قبائل آيت باعمران ضد الاستعمار، مواصلة نضالاتها الوطنية لتدخل في معارك طاحنة لقنت خلالها المحتل درسا في الشجاعة والصمود، حيث شهد هذا اليوم هجومات مركزة على ستة عشر مركزا إسبانيا في آن واحد، تراجع على إثرها الجنود الإسبان إلى الوراء ليتحصنوا بمدينة سيدي إفني، ودامت هذه المعارك البطولية حتى الثاني عشر من شهر دجنبر من السنة نفسها، تكبدت خلالها القوات الاستعمارية خسائر فادحة في الأرواح والعتاد رغم قلة عدد المجاهدين الباعمرانيين ومحدودية عتادهم الحربي.

ومن هذه البطولات الخالدة هناك معارك تبلكوكت وبيزري وبورصاص وتيغزة وامللو وبيجارفن وسيدي محمد بن داوود والالن تموشا ومعركة سيدي إفني، وتمكن مجاهدو قبائل آيت باعمران من إجبار القوات الإسبانية على التمركز بسيدي إفني، كما أقاموا عدة مواقع أمامية بجوار المواقع الإسبانية كي لايتركوا لقوات الاحتلال مجالا للتحرك أو النجاة .

فقد خاض الشعب المغربي، عبر التاريخ، نضالات مريرة وملاحم بطولية في مواجهة الاستعمار الذي لم يفوت فرصة لبسط نفوذه وهيمنته على التراب الوطني قرابة نصف قرن، فقسم البلاد إلى مناطق نفوذ موزعة بين الحماية الفرنسية بوسط المغرب والحماية الإسبانية بشماله وجنوبه، فيما خضعت منطقة طنجة لنظام دولي، وهذا ما جعل مهمة تحرير التراب الوطني صعبة وعسيرة، قدم العرش والشعب في سبيلها كل غال ونفيس في سياق كفاح وطني عالي المقاصد، متلاحق المراحل، طويل النفس، ومميز الصيغ، لتحقيق الحرية والاستقلال والوحدة والسيادة الوطنية”.

ومن الصفحات المشرقة في سجل التاريخ النضالي والأمجاد الوطنية، روائع ومنارات وضاءة على درب التحرير، كحركة الشيخ أحمد الهيبة بالجنوب المغربي سنة 1912، ومعركة الهري بالأطلس المتوسط سنة 1914، ومعارك أنوال بالريف سنة 1921، ومعارك بوغافر بتنغير، ومعارك جبل بادو بالرشيدية سنة 1933، وغيرها من المحطات التاريخية الطافحة بالمواجهات والمقاومات ضد المحتل الأجنبي.

كما تجلت أشكال وأساليب النضال السياسي في مناهضة ظهير التمييز بين أبناء الوطن الواحد، والتفريق بين العرب والأمازيغ سنة 1930، وتقديم مطالب الشعب المغربي الإصلاحية والمستعجلة في 1934 و1936، ووثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944، وهي مراحل جاهد بطل التحرير جلالة المغفور له محمد الخامس، طيب الله ثراه، لبلورة توجهاتها وأهدافها ورسم معالمها وإذكاء إشعاعها منذ توليه عرش أسلافه المنعمين في 18 نونبر 1927، حيث جسد الملك المجاهد قناعة شعبه في التحرير وإرادته في الاستقلال، ومثل بنضاله المستميت وتضحياته الجسام رمزا للمقاومة والفداء من اجل الحرية والاستقلال، ومؤكدا انتماءه العربي الإسلامي في خطاب طنجة التاريخي في 9 أبريل 1947، ومعلنا العزم على إنهاء الوجود الاستعماري وتمسك المغرب بمقوماته الأصيلة وثوابته العريقة.

إلا أن تداعيات هذه المؤامرة لم تزد السلطان الشرعي إلا صمودا وتمسكا بالدفاع عن مقدسات وطنه، ولم تزد المغاربة إلا قوة في النضال وتفجير طاقاتهم الثورية من أجل عودة الشرعية ورجوع الملك المجاهد وأسرته الكريمة من المنفى إلى أرض الوطن وإعلان الاستقلال. وهو ما تحقق في 16 نونبر 1955، بعودة الشرعية ورجوع جلالة المغفور له محمد الخامس والأسرة الملكية الشريفة، مظفرا منصورا حاملا لواء الحرية والاستقلال.

هكذا، سارت مواكب المتطوعين والمتطوعات لتحطيم الحدود الوهمية، لتصل الرحم بأبناء الوطن، وكان النصر حليف الإرادة الوطنية للمغاربة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، لترتفع راية الوطن خفاقة في سماء العيون في 28 فبراير 1976، إيذانا بجلاء آخر جندي أجنبي عن الصحراء المغربية. وكذلك كان يوم 14 غشت 1979، الذي تم فيه استرجاع إقليم وادي الذهب، محطة بارزة وحاسمة في مسلسل ملحمة الوحدة الوطنية وإنهاء فترة من التقسيم والتجزئة التي عانى منها طويلا أبناء الوطن الواحد.

لقد تواصلت ملحمة صيانة الوحدة الترابية بكل عزم وإصرار لإحباط مناورات خصوم الوحدة الترابية للمملكة، التي لم تزدها إلا رسوخا ووثوقا وتعبئة شاملة ومستمرة لمواجهة كل التحديات الخارجية والتصدي لكل المؤامرات الانفصالية .

 

 

المتحف ذاكرة للتاريخ

 

يشهد الثامن عشر من مايو كل عام الاحتفال باليوم العالمي للمتاحف تحت رعاية اليونسكو .. وهو اليوم الذي حدده المجلس الدولي للمتاحف (الأيكوم) عام 1977 بهدف زيادة الوعي بأهمية المتاحف في تطوير المجتمعات.. باعتبارها الذاكرة الحية للشعوب.. يرتبط فيها الماضي بالحاضر.. وهي مدرسة لترسيخ الهوية ونشر الوعي الحضاري ودعم التربية والتعليم وإثراء الثقافة في المجتمع.

 ففي هذا اليوم تقوم متاحف العالم بتنظيم العديد من الفاعليات ، والاحتفال لا يقتصر على هذا اليوم فقط ، بل قد يستمر على مدى أسبوع أو ربما شهر ،حيث تسهم هذه  الفاعليات فى التعرف على التراث الانسانى وتطور الحضارات . 

عرف موقع منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلم "اليونسكو" المتاحف بأنها مؤسسات دائمة غير ربحية، تعمل لخدمة المجتمع وتطويره ، كما أنها مفتوحة للجمهور ، والمتاحف تستطيع امتلاك الإثباتات المادية للسكان وبيئتهم المحيطة ، حيث تعمل على حفظها وإجراء بعض البحوث العلمية بشأنها ، كما تكون المتاحف مع التراث الأثري ما يُعرف بـ«التراث العالمي»، ويصل عدد المتاحف في العالم إلى ما يقرب من 55 ألف متحف .

وتبرز أهمية المتاحف كونها تشتمل على معلومات تاريخية وحضارية ، تساعد المواطنين والباحثين على فهم تاريخ أمتهم ، فهى نوافذ ثقافية تطل على الأمس ، ومفتاحاً لثقافة المجتمع ،وتضم المعروضات والأشياء الثمينة لحمايتها ، وعرضها ، والاطلاع عليها ، وهى أحد وسائل الاتصال ، التي تعرض ثقافة وتاريخ وآثار وتقاليد حياة الشعوب ، وتُظهر المتاحف علاقة الحاضر بالماضي ، والمتاحف في العلم الحديث أصبحت مركزاً علمياً مهماً يُسهم في نشر وإبراز المعرفة ، والعلوم والتعريف بالتراث الإنساني في جميع المجالات .

لما كانت المتاحف تشكّل مركزاً للحفظ والدراسات والتأمل في التراث والثقافة ، فلم يعد بإمكانها البقاء بمعزل عن القضايا الأساسية المرتبطة بعصرنا ،لذلك اقترح المجلس الدولي للمتاحف (الأيكوم) فى عام 1992م أن يكون هناك شعار خاص لكل احتفالية سنوية ، لإلقاء الضوء على قضية محددة تساهم المتاحف فى إبرازها ، وكان شعار الاحتفال فى ذلك العام هو «المتاحف والبيئة»،ثم تعددت وتنوعت الشعارات فى الأعوام التالية ، فمثلا كان شعار عام 2008م «المتاحف وسائل للتغير الاجتماعي والتنمية»، وفي عام 2009م «المتاحف والسياحة» ، وعام 2011م«المتحف والذاكرة ، معروضات تحكى قصتنا» ، وعام 2012 م  كانت الاحتفالية تحت شعار  المتاحف في عالم متغير "تحديات جديدة ...الهامات جديدة " ،أما عام 2013 تحت شعار المتاحف « ( الذاكرة + الإبداع )= التغيير الاجتماعي »  ، وشعار 2015 م كان « التنمية المستدامة» ، وفى عام 2016 كان «المتاحف والأماكن الحضارية الأثرية» ،  اما هذا العام2017  فشعاره «ما لا يقال بالمتاحف » ، وهدفه هو تصحيح الكثير من الأفكار عن بعض الموضوعات لدى العامة .

المجلس الدولى للمتاحف .. وتعزيز وتطوير المتاحف :

 

أنشئ المجلس الدولي للمتاحف عام 1946، وهو منظمة غير حكومية يشتمل دورها على وضع معايير مهنية للمتاحف ، وتعزيز التدريب وتطوير المعرفة ورفع مستوى الوعي العام ، حول أهمية المحافظة على التراث ،من خلال شبكة من المتاحف التي هي جزء من أيكوم"، المنظمة العالمية للمتاحف ( International Council of Museum ) ، التي تضم أكثر من 32 ألف عضو من الخبراء العاملين في المتاحف من 136 دولة وإقليم حول العالم .

المتاحف ودورها فى المعرفة والتربية والتعليم والثقافة :

المتاحف لها دور هام  فى عملية المعرفة والتربية والتعليم والثقافة على اختلاف أنواعها ، فهى مركز ثقافي وعلمي وتربوي وتعليمي  يفتح المجال لكل من سعى لزيادة معرفته ، وتطوير ثقافته في عصر ينادي بشعار الثقافة والمعرفة للجميع ،فالوثائق المحفوظة في المتحف هى وثائق تاريخية وحضارية ووسائل تعليمية نادرة ومهمة في مختلفة الدراسات التاريخية والاجتماعية والثقافية، فهي مصدر لمعلومات مهمة من  شأنها أن تفيد الباحث، وتوحي له بأفكار ونظريات جديدة، وتعتبر من المصادر والمراجع والوثائق في بحوثه ودراساته .

 ومن خلال المتاحف أيضاً يتعرف الناس على الموروث الثقافي للشعوب والعادات والتقاليد ، إلى جانب دورها في تنمية روح الانتماء للوطن ، كما أن زوار المتحف يشعرون بزيادة معلوماتهم وبتطوير تفكيرهم. كما أصبح للمتاحف أيضاً دور في التفاعل بين الثقافة والطبيعة، حيث يقوم عدد متزايد منها بتركيز اهتمامه على العلم والعلوم الطبيعية والتكنولوجيا .

وتتعدد فى الوقت الراهن أنواع المتاحف ، ولكل منها أهدافه وأسلوب عمله ومنها : متاحف التاريخ الطبيعي - المتاحف العلمية -  متاحف الآثار- المتاحف الزراعية - متاحف الشمع - متاحف الأحياء المائية - متاحف الجيولوجيا - متاحف الطوابع - متاحف الأطفال .... وغيرها .

 

 

مجزرة 07 ابريل 1947 بمدينة الدار البيضاء

ومسيرة الكفاح الوطني من اجل الاستقلال والوحدة

 

بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

 

   السيد المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير،

   السادة الأساتذة الأجلاء،

  السيدات والسادة رجال الحركة الوطنية والمقاومة والتحرير،

 

    يسعدني ان ألبي دعوة فضاء الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير بالدار البيضاء الحي المحمدي للمشاركة بهذه المداخلة المتواضعة والتي تحمل عنوان " مجزرة 07 ابريل 1947 بمدينة الدار البيضاء ومسيرة الكفاح الوطني من اجل الاستقلال والوحدة "ضمن أشغال الندوة الفكرية المنظمة حول موضوع " احداث 07 ابريل 1947 بمدينة الدار البيضاء: السياق والدلالات " المنظمة بمناسبة احياء الذكرى 74 للأحداث الدامية التي شهدتها مدينة الدار البيضاء مهد المقاومة والتحرير في 07 ابريل من سنة 1947.

      ان تاريخ المغرب منذ سنة 1947 حافل بالأحداث والوقائع والمواقف والقرارات الحاسمة، كما انه حافل أيضا بمظاهر النجاح في اختيار توقيت مجالات التفاوض او التحدي والمواجهة. وتعد الزيارة التاريخية لجلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه الى طنجة في ابريل 1947مبادرة ذات أهمية سياسية استثنائية لاعتبارها نقطة تحول في تاريخ المغرب للحصول على الاستقلال.

       لقد خضع المغرب منذ سنة 1912 الى نظام الحماية الفرنسية التي ترتبت عنها حماية اسبانية بالشمال والجنوب بينما خضعت مدينة طنجة لنظام دولي خاص بها. وقاوم المغاربة هذا الغزو الأجنبي في السهول والجبال وخلفت المقاومة المسلحة مقاومة من نوع آخر على يد نخبة من الشباب خلال الثلاثينيات أخذت تتقدم بعرائض متوالية للمطالبة بالإصلاحات التي كانت ترى انه من الضروري إدخالها على نظام الحماية ليتحقق للمغرب ما يطمح اليه من تقدم وازدهار. لكن رد فعل السلطات الاستعمارية كان قاسيا حيث اتبعت سياسة القمع والتنكيل تجاه رجال الحركة الوطنية في المدن والقرى. وعقب ذلك ظروف الحرب العالمية الثانية وانهزام واحتلال فرنسا من طرف الجيوش الألمانية ولجوؤها الى أبناء المستعمرات لمساعدتها على التحرر ومقاومة الاحتلال. وفي سنة 1944 أعلنت الحركة الوطنية بتنسيق مع المغفور له محمد الخامس المطالبة بالاستقلال كشرط أساسي لتحقيق الإصلاحات التي طالما طالب بها المغاربة دون جدوى، لكن السلطات الاستعمارية، اختارت الرد على الموقف النضالي للوطنيين بحملات الاعتقال والنفي وإصدار الاحكام بالسجن في حق رجال الحركة الوطنية وفي حق عموم المواطنين.

       بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عرفت الأوضاع الدولية تطورات وتحولات عميقة فقد أنشئت منظمة الأمم المتحدة وتأسست الجامعة العربية وحصلت بعض الدول الاسيوية على الاستقلال. 

      ورغم ما تعرضت اليه الحركة الوطنية من قمع فقد استمرت في نضالها السياسي بتنسيق مع جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه. وفي هذا الصدد جاءت مبادرة السلطان بالقيام بزيارة لمدينة طنجة.                                          

      ويعد ما لقيته رغبة وتشبث جلالة المغفور له محمد الخامس في القيام بهذه الزيارة من معارضة شديدة من جهة العديد من الأطراف التي وضعت عراقيل شتى تسببت في تأجيلها مرة في سنة 1945 ومرتين في سنة 1946 دليلا واضحا على الخوف الذي اجتاح كل من فرنسا واسبانيا من حصول هذه الزيارة السلطانية وإصرار جلالة المغفور له محمد الخامس -رغم الضغوطات الكثيرة التي مورست عليه لثنيه عنها -على القيام بها لما لها من أهمية في سيرورة النضال الوطني من اجل الحرية والاستقلال.

      وفي ابريل 1947، ازداد اصرار وتمسك جلالة المغفور له محمد الخامس بالقيام بزيارة رسمية لطنجة الخاضعة للنظام الدولي. وبعد محادثات بين السلطان والإقامة العامة التي لم ترحب بفكرة الزيارة وبرمجتها، أصر السلطان على موقفه وبرمج هذه الرحلة في بداية شهر ابريل من سنة 1947.عند انتشار خبر هذه الزيارة، حاولت القوات الاستعمارية عرقلتها والحيلولة دون قيامها، لأنها أدركت ان هذه الزيارة لم تكن زيارة عادية بل كانت لها دلالة خاصة ترمز الى تأكيد الجذور التاريخية لهذه المدينة التي هي جزء من الإمبراطورية الشريفة رغم هيمنة المؤسسات الأجنبية على تسييرها والعزلة التي فرضتها عليها السلطات الاستعمارية.

      وبينما كان رجال الحركة الوطنية بمدينة الدار البيضاء يستعدون لإعطاء هذا الحدث ما يستحقه على المستويين الوطني والدولي، فإذا بهم يفاجؤون بأحداث المجزرة الدموية ليوم 07 ابريل 1947 والمعروفة في الذاكرة الشعبية بضربة سالكان، التي كانت منطقة بن امسيك ودرب الكبير وغيرها من احياء مدينة الدار البيضاء مسرحا لها ،بسبب شجار بسيط بين مغاربة وجنود سنغاليين مجندين في الجيش الاستعماري المرابط بالعاصمة الاقتصادية آنذاك والذي تحول خلال ساعات الى مذبحة، حيث أطلق الجنود السنغاليين رصاص رشاشاتهم على المواطنين المغاربة دون ان يتدخل رجال الشرطة وقوات حفظ النظام بالمدينة لإيقاف المجزرة التي ذهب ضحيتها المئات من القتلى والجرحى والمعتقلين.

      وعلى إثر هذه الأحداث، أضربت ساكنة مدينة الدار البيضاء مدة ثلاثة أيام، وقامت مظاهرات عنيفة في جميع المدن المغربية التي أعلنت الحداد على ضحايا مأساة الدار البيضاء وطالبت بمحاكمة مرتكبي هذه الجريمة الشنعاء.

     ورغم الحزن الشديد لجلالة المغفور له محمد الخامس لما حدث، إلا ان ذلك لم يثن عزمه عن القيام بالرحلة التي برمجها، فبعد قيامه بالزيارة الملكية لمكان الحادث والترحم على الشهداء ومواساته للجرحى في المستشفيات ولأسر الضحايا، سافر جلالة المغفور له محمد الخامس الى مدينة طنجة وألقى خطابه التاريخي من حدائق المندوبية بطنجة معلنا مطالبة المغرب بالاستقلال التام. ومن النتائج المباشرة لهذه الزيارة التاريخية لمدينة طنجة، انها قلبت حسابات الإدارة الفرنسية وفضحت سياستها بالمغرب على الصعيد العالمي ودخلت كلمة الاستقلال المصطلح السياسي المغربي، واتخذ عمل الحركة الوطنية دينامية جديدة من اجل السير في طريق التحرر من قيود الاحتلال الأجنبي وتحقيق الحرية والاستقلال.

 

معركة "أنوال" ملحمة من ملاحم البطولة في التاريخ الوطني

يخلد الشعب المغربي وفي طليعته أسرة المقاومة وجيش التحرير الذكرى المائة لملحمة "أنوال" التاريخية التي ظلت درسا للأمم الضعيفة وعبرة للشعوب المغلوب على أمرها، وبرهنت على أن قوة الإيمان والعزيمة هي أفعل في النفوس من قوة الأساطيل والدبابات والطائرات.

فقد سطر الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي رفقة المجاهدين من أبناء الريف ملاحم تاريخية أصبحت مصدر إلهام لكل الشعوب التواقة للحرية والانعتاق من قيود الاستعمار والعبودية عبر العالم.

وكتب التاريخ بمداد من الفخر والعزة ما حققه ثلة من البسطاء من ساكنة قبائل الريف لا يملكون إلا الإيمان بالله وحده وتشبثهم بحقهم الطبيعي في الحياة، كتبوا انتصارات أبهرت العالم بملاحم تاريخية أبرزها معركة أنوال الخالدة، كانت هزيمة قاسية على قوى الاستكبار والاستعمار العالمي "دونها المؤرخون الإسبان بـ"كارثة أنوال .قلبت معركة أنوال الخالدة كل الموازين، وأدهشت الرأي العام الدولي والرأي العام الإسباني، وساهمت في زعزعة النظام السياسي الإسباني وزلزلته.

وقد حظيت حرب الريف باهتمام كبير من كبار الكتاب والصحافيين من مختلف دول العالم، بالنظر إلى الملاحم البطولية التي سجلتها في تاريخ مكافحة الاستعمار، بقيادة الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، وظل في التاريخ، الرجل الذي اتحدت ضده دولتان كبيرتان في مستوى فرنسا وإسبانيا.

فمن هو الأمير المجاهد محمد عبدالكريم الخطابي الذي ظل اسمه عبر التاريخ منقوشا بالذهب، مقرونا بالإعجاب والإجلال؟وكيف وحد قبائل الريف المتناحرة والمشاكسة وأذاب العصبية القبلية؟
وكيف حارب الجهل والتخلف والفقر والجوع والأوبئة؟
وكيف سطر الملاحم وهزم جنرالات إسبانيا التي منيت في الريف بأكبر خسارة لها في التاريخ خلال القرنين 19و20؟

وُلد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي سنة 1882م، ببلدة أجدير بقبيلة "آيث ورياغر" المشهورة ببني ورياغل إحدى أكبر القبائل بإقليم الحسيمة التي تتواجد بالريف شمال المغرب، وكان والده شيخاً لقبيلة بني ورياغل سماه "محمدا" تبركًا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ليقرر تربية ابنه تربية صالحة منذ نعومة أظافره، فقام بتعليمه اللغة العربية وتحفيظه القرآن الكريم بنفسه، ثم أرسله إلى جامعة "القرويين" في مدينة "فاس" ليتعلم هناك علوم الفقه والشريعة، وبعد تخرجه من جامعة القرويين التحق بجامعة "سلمنكا" الإسبانية، فدرس الحقوق وحصل على درجة الدكتوراه، فعاد إلى مليلية ليشتغل صحفيا بجريدة "تلغراما ديل ريف"، ثم أستاذا ومترجما بمكتب شؤون الأهالي مع مزاولته لمهنة القضاء التي ارتقى فيها إلى منصب قاضي القضاة سنة 1914، اعتقل سياسيا بعدما اتهمته السلطات الإسبانية بالخيانة العظمى والتخابر مع القنصل الألماني "د، ڤالتر زشلن"، بعد نشره العديد من المقالات في صحيفة  "تلغراما ديل ريف" كان يدعوا فيها إسبانيا إلى عدم تجاوز نفوذ حدود مستعمراتها التاريخية سبتة ومليلية، وسُجن 11 شهراً، حاول خلالها الهرب ففشلت محاولته وكُسرت قدمه، قبل أن تبرأه المحكمة من التهم المنسوبة إليه.

لقب ببطل الريف، وأسد الريف،.. هذه الصفات اجتمعت كلها في شخصية فريدة هي شخصية المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي.
وبعد وفاة والده سنة 1920 إثر تسميمه من طرف زعيم إحدى القبائل من عملاء إسبانيا، أخذ بزمام زعامة قبيلة بني ورياغل وقاد محمد بن عبد الكريم الخطابي الريف نحو الانعتاق من الاستعمار، وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، فكانت أمامه تحديات كبيرة وتنتظره معارك حربية ضارية، وأول هذه المعارك هي محاربة العصبية القبلية والجهل والتخلف والفقر والجوع والأوبئة والأمراض.
فآخى بين القبائل وألقى دروس الوعظ والإرشاد في المساجد، وحث على الفلاحة والزراعة وشيد المحاكم والمدارس وجلب أطباء لعلاج المرضى.
وحد صفوف قبائل الريف: آيت وياغر "بني ورياغل" صنهاجة، غمارة.. وباقي قبائل الريف وجبالة

قام بتجميع القبائل المتناحرة، وعمل على زرع الوعي ومبدأ المؤاخاة كما عمد على إزالة خلافات الثأر والانتقام بين القبائل بمحو رموز الثأر التي كانت تنصب أمام المنازل، وحارب داء الكراهية والحقد والبغضاء وحب الانتقام، ونشر الفضيلة والتسامح والبناء الداخلي على أساس الصدق في القول والعمل

أمر الطلبة بحفظ القرآن الكريم في المساجد، والسهر على تلقينه لأبناء القبيلة، وتدريس علوم الحديث والفقه وفق المذهب المالكي.

ومنع تدخين الكيف، وأنشأ بيت المال لجمع الزكاة، فكان مصلحا قبل أن يكون قائدا، فأشاع العدل والسلم الاجتماعي.

شن حربه الأولى على الفقر والجوع وقام بالحث على النشاط الزراعي والاعتماد على الإنتاج المحلي: "الزراعة تغنيكم عن المواد الغذائية التي تستوردونها منهم-أي من المستعمر-، والشجرة المثمرة تغنيكم عن فاكهتهم وزيتهم، والمحافظة على الغابات تعيد إليكم المطر ليسقي الزرع والشجر، كل من يزرع شجرة ويعتني بها يعتبر مقاتلا شجاعا ووطنيا غيورا، وكل من قطع غابة يعتبر خائنا للوطن وعدوا لشعبه وأولاده".

أدرك محمد بن عبد الكريم الخطابي أن معركته الأولى ستكون ضد الجهل والتخلف فقام بباء مدارس تعليمية حديثة تدرس علوم الرياضيات وغيرها بأجدير وبقيوة يشرف عليها علماء من قبيلة غمارة، ومعهدا دينيا بمدينة الشاون "شفشاون".


كما شيد مستشفى بأجدير واستأجر طبيبا من مدينة فاس وطبيبا فرنسيا يدعى "كود" وطبيبة فرنسية من البعثة لعلاج المرضى بعدما كان الطب بقبائل الريف يقتصر على التداوي بالأعشاب والزيت.

كما قام بوضع شبكة الهاتف للاتصال بين القيادة المركزية والجبهات المختلفة، وشبكة من الطرق تربط المناطق بأجدير، إضافة إلى إنشاء العديد من المحاكم بأجدير وتارجيست وتمسمان للفصل في القضايا المدنية والجنائية، وذلك لاستتباب الأمن وترسيخ السلم الاجتماعي.
وقد كَتَبَ صحافي أمريكي "بول سكوت مور" في سنة 1925 يصف النظام والقانون في حكومة الريف قائلاً: «لقد كان النظام والقانون يسودان البلاد، وخيّم الأمن على الممتلكات وطرق المواصلات»‏.

قام بتوعية المجاهدين في المساجد بمواعظه وأحاديثه مشيرين إلى ذلك قائلين إنهم «كانوا ينتظرون بفارغ الصبر وقت صلاة الصبح والعصر حيث كان يؤم الناس ويلقي عليهم أحاديثه لكي يستنيروا بها، فكانوا يتقبلونها بكل اهتمام ويتحرقون شوقاً لتنفيذها»
عمل على جمع أبناء القبائل وأعلن الجهاد في وجه المحتل، انضمت إليه قبائل الريف بغية الدفاع عن الحق في الحرية والعيش الكريم، وكان محمد بن عبد الكريم الخطابي يعتمد أسلوب الهجوم المباغت على نقاط الإسبانيين وتمركزاتهم، أو السطو الليلي عليهم ليأخذ أسلحتهم، وهو ما مكنه من محاربة المستعمر بسلاحه المتقدم نفسه.
وعمل نظام تجنيد فريد، حيث أوجب على كل الذكور من سن 16 إلى 55 أن يتجندوا كل شهر خمسة عشر يومًا، ويعودوا إلى وظائفهم وأهليهم خمسة عشر يومًا، فضمن وجود الجند، وضمن أيضًا حسن سير الحياة العادية واطمئنان الناس على أهليهم وأولادهم.
وقد أكد محمد بن عبد الكريم الخطابي في مراسلاته لمختلف دول العالم ولمختلف المنظمات الإنسانية أن شعب الريف يريد السلم ولكن الحرب فرضت عليه من طرف الغزاة والمستعمر الغاشم. فقد كتب إلى رئيس الوزراء البريطاني "رامزي مكدونلد" أرسلها مع "ورد بريس" مراسل صحيفة "ديلي ميل" في رسالته الثانية إليه في أبريل 1923، طالبه فيها بالتدخل لدى إسبانيا لكي تسحب جنودها ، وإذا أبت فإن السيف بيدنا والنصر بيد الله يؤتيه من يشاء.

الذكرى 63 لمعركة الدشيرة