الخميس، 3 مارس 2022

 

معركة "أنوال" ملحمة من ملاحم البطولة في التاريخ الوطني

يخلد الشعب المغربي وفي طليعته أسرة المقاومة وجيش التحرير الذكرى المائة لملحمة "أنوال" التاريخية التي ظلت درسا للأمم الضعيفة وعبرة للشعوب المغلوب على أمرها، وبرهنت على أن قوة الإيمان والعزيمة هي أفعل في النفوس من قوة الأساطيل والدبابات والطائرات.

فقد سطر الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي رفقة المجاهدين من أبناء الريف ملاحم تاريخية أصبحت مصدر إلهام لكل الشعوب التواقة للحرية والانعتاق من قيود الاستعمار والعبودية عبر العالم.

وكتب التاريخ بمداد من الفخر والعزة ما حققه ثلة من البسطاء من ساكنة قبائل الريف لا يملكون إلا الإيمان بالله وحده وتشبثهم بحقهم الطبيعي في الحياة، كتبوا انتصارات أبهرت العالم بملاحم تاريخية أبرزها معركة أنوال الخالدة، كانت هزيمة قاسية على قوى الاستكبار والاستعمار العالمي "دونها المؤرخون الإسبان بـ"كارثة أنوال .قلبت معركة أنوال الخالدة كل الموازين، وأدهشت الرأي العام الدولي والرأي العام الإسباني، وساهمت في زعزعة النظام السياسي الإسباني وزلزلته.

وقد حظيت حرب الريف باهتمام كبير من كبار الكتاب والصحافيين من مختلف دول العالم، بالنظر إلى الملاحم البطولية التي سجلتها في تاريخ مكافحة الاستعمار، بقيادة الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، وظل في التاريخ، الرجل الذي اتحدت ضده دولتان كبيرتان في مستوى فرنسا وإسبانيا.

فمن هو الأمير المجاهد محمد عبدالكريم الخطابي الذي ظل اسمه عبر التاريخ منقوشا بالذهب، مقرونا بالإعجاب والإجلال؟وكيف وحد قبائل الريف المتناحرة والمشاكسة وأذاب العصبية القبلية؟
وكيف حارب الجهل والتخلف والفقر والجوع والأوبئة؟
وكيف سطر الملاحم وهزم جنرالات إسبانيا التي منيت في الريف بأكبر خسارة لها في التاريخ خلال القرنين 19و20؟

وُلد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي سنة 1882م، ببلدة أجدير بقبيلة "آيث ورياغر" المشهورة ببني ورياغل إحدى أكبر القبائل بإقليم الحسيمة التي تتواجد بالريف شمال المغرب، وكان والده شيخاً لقبيلة بني ورياغل سماه "محمدا" تبركًا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ليقرر تربية ابنه تربية صالحة منذ نعومة أظافره، فقام بتعليمه اللغة العربية وتحفيظه القرآن الكريم بنفسه، ثم أرسله إلى جامعة "القرويين" في مدينة "فاس" ليتعلم هناك علوم الفقه والشريعة، وبعد تخرجه من جامعة القرويين التحق بجامعة "سلمنكا" الإسبانية، فدرس الحقوق وحصل على درجة الدكتوراه، فعاد إلى مليلية ليشتغل صحفيا بجريدة "تلغراما ديل ريف"، ثم أستاذا ومترجما بمكتب شؤون الأهالي مع مزاولته لمهنة القضاء التي ارتقى فيها إلى منصب قاضي القضاة سنة 1914، اعتقل سياسيا بعدما اتهمته السلطات الإسبانية بالخيانة العظمى والتخابر مع القنصل الألماني "د، ڤالتر زشلن"، بعد نشره العديد من المقالات في صحيفة  "تلغراما ديل ريف" كان يدعوا فيها إسبانيا إلى عدم تجاوز نفوذ حدود مستعمراتها التاريخية سبتة ومليلية، وسُجن 11 شهراً، حاول خلالها الهرب ففشلت محاولته وكُسرت قدمه، قبل أن تبرأه المحكمة من التهم المنسوبة إليه.

لقب ببطل الريف، وأسد الريف،.. هذه الصفات اجتمعت كلها في شخصية فريدة هي شخصية المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي.
وبعد وفاة والده سنة 1920 إثر تسميمه من طرف زعيم إحدى القبائل من عملاء إسبانيا، أخذ بزمام زعامة قبيلة بني ورياغل وقاد محمد بن عبد الكريم الخطابي الريف نحو الانعتاق من الاستعمار، وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، فكانت أمامه تحديات كبيرة وتنتظره معارك حربية ضارية، وأول هذه المعارك هي محاربة العصبية القبلية والجهل والتخلف والفقر والجوع والأوبئة والأمراض.
فآخى بين القبائل وألقى دروس الوعظ والإرشاد في المساجد، وحث على الفلاحة والزراعة وشيد المحاكم والمدارس وجلب أطباء لعلاج المرضى.
وحد صفوف قبائل الريف: آيت وياغر "بني ورياغل" صنهاجة، غمارة.. وباقي قبائل الريف وجبالة

قام بتجميع القبائل المتناحرة، وعمل على زرع الوعي ومبدأ المؤاخاة كما عمد على إزالة خلافات الثأر والانتقام بين القبائل بمحو رموز الثأر التي كانت تنصب أمام المنازل، وحارب داء الكراهية والحقد والبغضاء وحب الانتقام، ونشر الفضيلة والتسامح والبناء الداخلي على أساس الصدق في القول والعمل

أمر الطلبة بحفظ القرآن الكريم في المساجد، والسهر على تلقينه لأبناء القبيلة، وتدريس علوم الحديث والفقه وفق المذهب المالكي.

ومنع تدخين الكيف، وأنشأ بيت المال لجمع الزكاة، فكان مصلحا قبل أن يكون قائدا، فأشاع العدل والسلم الاجتماعي.

شن حربه الأولى على الفقر والجوع وقام بالحث على النشاط الزراعي والاعتماد على الإنتاج المحلي: "الزراعة تغنيكم عن المواد الغذائية التي تستوردونها منهم-أي من المستعمر-، والشجرة المثمرة تغنيكم عن فاكهتهم وزيتهم، والمحافظة على الغابات تعيد إليكم المطر ليسقي الزرع والشجر، كل من يزرع شجرة ويعتني بها يعتبر مقاتلا شجاعا ووطنيا غيورا، وكل من قطع غابة يعتبر خائنا للوطن وعدوا لشعبه وأولاده".

أدرك محمد بن عبد الكريم الخطابي أن معركته الأولى ستكون ضد الجهل والتخلف فقام بباء مدارس تعليمية حديثة تدرس علوم الرياضيات وغيرها بأجدير وبقيوة يشرف عليها علماء من قبيلة غمارة، ومعهدا دينيا بمدينة الشاون "شفشاون".


كما شيد مستشفى بأجدير واستأجر طبيبا من مدينة فاس وطبيبا فرنسيا يدعى "كود" وطبيبة فرنسية من البعثة لعلاج المرضى بعدما كان الطب بقبائل الريف يقتصر على التداوي بالأعشاب والزيت.

كما قام بوضع شبكة الهاتف للاتصال بين القيادة المركزية والجبهات المختلفة، وشبكة من الطرق تربط المناطق بأجدير، إضافة إلى إنشاء العديد من المحاكم بأجدير وتارجيست وتمسمان للفصل في القضايا المدنية والجنائية، وذلك لاستتباب الأمن وترسيخ السلم الاجتماعي.
وقد كَتَبَ صحافي أمريكي "بول سكوت مور" في سنة 1925 يصف النظام والقانون في حكومة الريف قائلاً: «لقد كان النظام والقانون يسودان البلاد، وخيّم الأمن على الممتلكات وطرق المواصلات»‏.

قام بتوعية المجاهدين في المساجد بمواعظه وأحاديثه مشيرين إلى ذلك قائلين إنهم «كانوا ينتظرون بفارغ الصبر وقت صلاة الصبح والعصر حيث كان يؤم الناس ويلقي عليهم أحاديثه لكي يستنيروا بها، فكانوا يتقبلونها بكل اهتمام ويتحرقون شوقاً لتنفيذها»
عمل على جمع أبناء القبائل وأعلن الجهاد في وجه المحتل، انضمت إليه قبائل الريف بغية الدفاع عن الحق في الحرية والعيش الكريم، وكان محمد بن عبد الكريم الخطابي يعتمد أسلوب الهجوم المباغت على نقاط الإسبانيين وتمركزاتهم، أو السطو الليلي عليهم ليأخذ أسلحتهم، وهو ما مكنه من محاربة المستعمر بسلاحه المتقدم نفسه.
وعمل نظام تجنيد فريد، حيث أوجب على كل الذكور من سن 16 إلى 55 أن يتجندوا كل شهر خمسة عشر يومًا، ويعودوا إلى وظائفهم وأهليهم خمسة عشر يومًا، فضمن وجود الجند، وضمن أيضًا حسن سير الحياة العادية واطمئنان الناس على أهليهم وأولادهم.
وقد أكد محمد بن عبد الكريم الخطابي في مراسلاته لمختلف دول العالم ولمختلف المنظمات الإنسانية أن شعب الريف يريد السلم ولكن الحرب فرضت عليه من طرف الغزاة والمستعمر الغاشم. فقد كتب إلى رئيس الوزراء البريطاني "رامزي مكدونلد" أرسلها مع "ورد بريس" مراسل صحيفة "ديلي ميل" في رسالته الثانية إليه في أبريل 1923، طالبه فيها بالتدخل لدى إسبانيا لكي تسحب جنودها ، وإذا أبت فإن السيف بيدنا والنصر بيد الله يؤتيه من يشاء.